يقُول الله سُبحانَه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) سُورة الأَنفال: 45.
بعدَ عنايَة ربَّانيَّة مُتواصِلَة ومَدد إلهي مُتتابِع على تلكُم الثُّلَّة المُؤمنَة الصَّابِرة التي خرجَت مَع الحبيبِ المُصطفَى في غزوَة بَدر؛ تأتي الآنَ أوامر مِن الله عزَّ وجل إليهِم استِكمالاً واستِحقاقًا لشُروطِ النَّصر والتَّمكين في تناغُمٍ رائِع فريد بينَ التَّدخُّل الإلهي الخالِص في الأَمور والجُهدِ البَشري الذي لا مناصَ مِن بذلِه!
كانَ الباري عزَّ وجل قادِرًا أن يكفيَ المُؤمنين القِتال كما هزمَ الأحزابَ وحدَه يَوم الخَندق؛ ولَكن يُريدُ تمحيصَ عبادِه وابتلاء بعضِهم ببعض، وتمييزِ الكُمَّل الثَّابتين مِن الخَورِ المُتقاعسين! هذه سُنَّة الله ولَن تجدَ لسُنَّة الله تبديلا!
في أمرِ التَّوفيق وتلقِّي الفتوحات الإلهيَّة لا بُدَّ مِن مُقدِّماتٍ تصدُر مِن الإنسانِ أوَّلا؛ فإذا حقَّقها العَبد أكمَل الله باقي الطَّريق وسهَّل الخُطوات المُتبقِّيَة! فالخالِق العَظيم لا يُحابي أحدًا ولا يُميِّز أحدًا مِن عبادِه على آخَر في الأعطياتِ والمِنح إلاَّ بفارِقٍ واضِح من الصِّدق والإخلاصِ وصفاءِ النِّيَّة، وبذلِ الجُهد الصَّائب في الظَّرفِ الصَّائب والمَكان الصَّائب والوَقت الصَّائب!
يأمُر الله صَفوتَه مِن عبادِه بالثَّبات والإكثارِ مِن ذِكر الله عزَّ وجل وهُما لَعمري قُوَّتان لا أحسِبُ أنَّ قُوَّة في العالَم تعدِلهُما؟! فأنَّى لقُوَّة عالميَّة مَهما استَظهرَت بأنواعِ الأسلِحَة والدَّبابات ودجَّجَت صُفُوفَها بأمهَر الضُّبَّاطِ والجُنود أن تَهزِم مُؤمِنا واحِدًا مُتصلا قلبُه بفاطِر الأَرض والسَّماوات والملائِكة بعد ذَلك ظَهير؟!
(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:146- 148].
إذن: إنَّها طاقَة الذِّكر الكثير الله عزَّ وجل التي تُثبّتُ الإنسانَ في أصعَب المواقفِ وأشدِّها، لأنَّها نُورٌ مِن قبسِ الله، ومَددٌ مِن رَوحِ الله! لَم تأبَه بِقلَّة أولئك النَّفر الذين خرجُوا مع رسُول الله (صلى الله عليه وسلَّم) ولا بقلَّة ذاتِ يدِهم وضُعفِ شَوكتِهم! فانتشلتهُم مِن وِهادِ الضُّعف والذِّلَّة إلى معالي النَّصر والتَّمكين! ولا يشكُّ شاكٌّ أنَّ مَوقعَة بَدر كانَت يَوم فُرقانٍ بِحقٍّ بيَن مُعسكري الإيمانِ والكُفر، وكانَت الشّرارَة الأبرز التي قدَحت زِنادَ المُجتَمع المُسلِم للانطلاقِ برسالَة الله إلى العالَم أجمَع!
إنَّ الطَّاقَة الرَّبانيَّة التي يتحدَّثُ عنها الباري عزَّ وجل هُنا ويأمُر عبادَه استِمدادَها واستِدرارَها مِنه لهيَ نَفسُ تِلك الطَّاقَة العَجيبَة التي استمدَّها كليمُ الله مُوسَى (عليه السَّلام) مِن ربِّه، وطلبَ وزيرًا مِن ربِّ العزَّة يُعينُه عليها؛ وهُو يتلقَّى مِنه تكليفًا ثقيلا بمُجابهَة فِرعَون وتبليغِ رسالاتِ الله إليه وما أدراكَ ما فِرعَون في طُغيانِه وجبرُوتِه! ولَكن إذا كانَ الله معَك فمَن عليك؟! وإذا عليكَ فمَن معك؟! وما قُوَّة فِرعَون أمام قُوَّة العَزيز الجبَّار سُبحانه؟!
(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً (35)).
إنَّ سيِّدنا مُوسَى عليه السَّلام يعرِف أكثَر مِن غيرِه أن لا طاقَة لَه بمُخاطبَة فِرعَون؛ وهُو الذي تربَّى في قصرِه وخبَر مِنه ما لَم يخبُر غيره! والأدهَى مِن ذَلك تِلك الفَعلة التي فعلَها إبَّانَ خُروجِه إلى مَدين! ولَكنَّه يعرِف أكثَر مِن غيرِه أيضًا أنَّ ذَلكُم الأسد الهصُور المُتألِّه سيغدُو قطا وَديعا إذا تسلَّح بِذكر الله ولَم يفتُر عَن ذِكرِه!
لَم يَكتَف ربُّ الجَلال سُبحانَه بإقبالِ عبدِه مُوسى إليه واستيعابِه لمَلاكِ القضيَّة وسرِّها؛ بل أكَّد عليه الأَمر بِحزم قائِلا: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) [طه : 42].
أجل! إيَّاكُما أن تفتُرا عَن ذِكر ربِّكُما؛ فيكلكُما الله إلى نفسَيكُما! وتوهَن عزائمُكما، فيتمكَّن الشَّيطانُ مِن تخذيلكُما! صَدقت يا ربِّ حينَ قُلت: ولذِكر الله أكبَر!
قُوَّة الذِّكر وما أدراكُم ما قُوَّة الذِّكر! إنَّها تِلك القُوَّة الفَريدَة التي ثبَّتت الرَّسُول (صلى الله عليه وسلَّم) أيضًا ومَن معهُ يَوم الأحزاب يَوم بلَغت القُلوبُ الحناجِر! ولَو لا استِعصامُهم بِذكر ربِّهِم لهلكُوا مِن الفَزع والخَوف قبلَ أن يصلَ إليهِم رُمحٌ أو سَهم!
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب : 21].
لستُ أنوي الاستِطرادَ في تبيانِ أسرارِ قُوَّة الذِّكر في موارِدها في كِتاب الله عزَّ وجل وهي كثيرَة، أسأل الله أن يُوفِّقَني لأن أحرِّرَ فيها شَيئًا في القَريبِ العاجِل؛ بقدِر ما أنوي أن أعتِبَ على أناسٍ لا يتصوَّرُون الدِّين إلى مُجرَّد تصحيح تصوُّرات وضَبط مفاهيم، وتحرير مسائِل وتقريرُ فتاوَى، وتدبيج بُحوثٍ دينيَّة، وحُضور مؤتَمرات فقهيَّة...الخ، وأمَّا أن يُفكِّروا في حُضورِ حلقَة ذِكر تشحَن فُؤاده بنُور الله وتُعتِقه مِن ربقَة الوساوس، ويرقَّ قلبُه لمَوعظَة تُذكِّرُه بيَوم الرَّحيل ولقاءِ الله.. فلا يَحسبُ الكَثيرون ذَلك إلا شَطحات تصوُّف أو دَروشَة قَومٍ بُلَّدٍ لَم يترقُّوا بعدُ في مدارِج العِلم ولَم تَرسخ أقدامُهم فيه!
لا نستَغرب بعد ذَلك إن افتَقدنا طُلابا للعِلم الشَّرعي في صلاة الفَجر –سيَما في هذه اللَّيالي الصَّيفيَّة القصيرَة- فوَجدناهُم يغطُّون في سُباتٍ عميق! ولا تستغرب أن نجدَ أساتذة محسُوبين على الدِّينِ وأهلِه تجمعهُم جلسات لَغوٍ وتافِهٍ مِن الكَلام؛ يستَحي مِن حُضورِها الدَّهماءُ مِن النَّاس! ألأنَّهُم غافلُون لا يَدرُون؟! كلاَّ وربِّ العزَّة! بَل إنَّهُم يحفظُون الطَّارِفَ والتَّليد مِن الأقوالِ والكُتب والمَسائِل؛ ولكنَّ قُلوبهم أشبَه بالجوَّال في آخِر النَّهار حينَ تنتَهي شُحنتُه فيستغيثُ بصاحبِه أن أوصِلني بمقبسِ الكَهرباءِ وإلا فقَد أقعُدُ بِك في وَقتٍ قَد تكُونُ أحوَج ما تكُون إلي!
فاللّهم اعمُر قُلوبَنا بذكرك، وحبِّب إلينا مجالس الذِّكر والذَّاكِرين، ولا تَقطَع عنَّا أمدادَك وألطافَك؛ فإنَّه لا حَول لَنا ولا قُوَّة إلاَّ بِك.