الفاشية بحلّتها اللاتينية تستعدّ للحكم عبر "ترامب البرازيلي"

الفاشية بحلّتها اللاتينية تستعدّ للحكم عبر "ترامب البرازيلي"

28 أكتوبر 2018
خطر بولسونارو كان يلوح منذ بداية العام (فرانس برس)
+ الخط -

لم تنجُ أميركا اللاتينية من تسونامي الشعبوية المتطرفة، أو هكذا، على الأرجح، ستقول صناديق الاقتراع في البرازيل، مساء اليوم الأحد. وإذا لم تحصل معجزة، أو انتفاضة انتخابية، وإذا لم تثمر آخر جهود التحشيد اليساري، لمنع جايير بولسونارو من أن يصبح رئيساً لأكبر ديمقراطية في جنوب القارة الأميركية، فإنّ "مسخاً" جديداً، مستنسخاً عن دونالد ترامب، سيولد من رحم الإحباط من سياسات الأحزاب التقليدية، الذي يتدحرج كالدومينو، فائزاً أحياناً، أو خاسراً بطعم الفوز، وهذه المرة، بخصوصية دراما تعيشها البرازيل منذ سنوات.

لكنّ تسونامي بولسونارو، رافع شعار "البرازيل فوق كل شيء، الله فوق الجميع"، لا ينفع معه فقط السؤال عما إذا كانت البرازيل "ستصحو يمينية متطرفة، أم يسارية"، صباح غدٍ الإثنين. ففوز أحد المرشحين، بولسونارو أم غريمه اليساري فرناندو حداد، لن يؤمن بأي حال، نهايةً للفوضى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها هذا البلد، منذ أن اجتمع نقيضان في شخص رجلٍ واحد، الرئيس الأسبق، الأيقونة أو الفاسد، إيناسيو لولا دي سيلفا، القابع في سجن كوريتيبا جنوب البلاد، منذ إبريل/نيسان الماضي، وكذلك، منذ أن أصبح معظم السياسيين في هذا البلد، "مشاريع سجناء".

واختزلت حملة الانتخابات الرئاسية الحالية في البرازيل، التي رافقتها حملات حكّام المناطق، والمرشحين لملء ثلاثة أرباع مقاعد مجلس الشيوخ، والنواب الفدراليين، ونواب الولايات، جميع العناوين المُلحّة التي من الممكن أن تمرّ على رأس البرازيليين، من دون أن تقترب أيٌّ منها، في الصميم، من تقديم حلولٍ لجوهر المأساة التي تضرب هذا البلد، بعدما عاش انطلاقة قرنٍ ذهبية، مع رئيسٍ يساري كان يُعرف بالأكثر شعبية في العالم، وصل الأمر إلى حد أن وصفه الرئيس الأميركي باراك أوباما في عام 2009، في مصافحة أعادها التلفزيون البرازيلي عشرات المرات، بأنه "رجله المفضل"، وحصد تقييماً عالياً، من المنظمات الدولية، كيساري عرف كيف يقود اقتصاد بلاده نحو الأفضل.

لكنّ الصفعة المؤلمة التي وجهها لولا للبرازيليين، خصوصاً للطبقة الفقيرة والمتوسطة التي خذلها بقضايا الفساد التي حاصرته وأدت كذلك إلى عزل وريثته ديلما روسيف في عام 2016، لم تمنع بقاءه الوجه المفضل في الـ2018 لرئاسة أكبر اقتصادٍ لاتيني. إذ يقال إن البرازيليين يتبعون في السياسة ويعملون بها وفق "القلب"، الذي بقي يميل للسياسي الأكثر شعبية الذي عرفوه. لكن منع لولا من الترشّح كان أمراً واقعاً. وللمفارقة، فإنّ خطر بولسونارو كان يلوح منذ بداية العام، قافزاً على احتمال أن يتمكّن أي مرشح آخر، غير زعيم الـ"بارتيدو دوس ترابالهادوريس"، أو حزب العمال البرازيلي، المسجون، من الفوز، حتى ولو اختاره هو نفسه.

هكذا، لم يكن تقدّم جايير بولسونارو، عضو الكونغرس البرازيلي منذ عشرات الأعوام، مع حزبه الاجتماعي الليبرالي الصغير، في الدورة الأولى من الانتخابات في السابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي، مفاجئاً، بعدما بنى على فشل منافسيه في تقديم برامج ترقى إلى التحديات التي تواجه البرازيل، وعلى فرصة غياب كاريزما لولا، وعلى استياء البرازيليين وسأمهم، كمعظم الشعوب التي باتت تنحو نحو الخطاب المتطرف، كبديلٍ عن خطابات بالية، لا تسمن ولا تغني من جوع، في أنظمة سياسية منهكة.

وبآلة انتخابية بسيطة نسبياً، تارة عن سرير مستشفى بعد تعرّضه لهجوم في أغسطس/آب الماضي، وتارة عبر تطبيقات الـ"سوشال ميديا" التي بات يُدمن عليها ملايين البرازيليين أخيراً، عرف بولسونارو كيف يسلب عقول المترددين، رافضاً، بفقر إلمامه وقلّة خبرته السياسية، مناظرةً عرضها عليه حداد، ومستعيناً بأدوات كلامية، لم يسبقه إليها أيُّ مرشحٍ متطرف، في أي ديمقراطية في العالم، في القرن الواحد والعشرين.

وإذا كانت الانتخابات الحالية، بحدة استقطابها، قد قسمت البرازيل، و147 مليون ناخب، إلى قسمين، الـ"هم" في مواجهة الـ"نحن"، أو الأغنياء في مواجهة الفقراء، مجدداً، إلا أنّ الوجه المتطرّف للحملة، حظي بدعمٍ غير مسبوق من الشباب تحت الـ35 عاماً، المتعطش إلى تغييرٍ، ولو كارثي، والمتابع عبر "واتس آب" و"فيسبوك"، لسباقٍ جنوني، سمته التناقض في أرقام الاستطلاعات، بين نسبة كبيرة أعربت عن خشيتها من عودة الحكم الديكتاتوري، وأخرى عن عدم إيمانها بالأحزاب والأطروحات التقليدية، وأخيرة عن نيتها التصويت بورقةٍ بيضاء.

وفيما أعادت الأيام الماضية أملاً لدى اليساريين في إمكانية الفوز، مع تقليص حداد للفارق في استطلاعات الرأي مع منافسه، لا سيما من خلال استمالته الوسطيين واليمينيين المترددين، نائياً بالنفس عن لولا، وتحشيد غير مسبوق للخائفين على الديمقراطية، رفع بولسونارو، من جهته، من حدة خطابه المعادي للنظام، واعداً بـ"تطهير" المؤسسات من الفساد الذي "لم يشهده تاريخ البرازيل من قبل"، وبمحو اليسار عن خارطة السياسة في البرازيل، بدعم من طبقة المستثمرين ورجال الأعمال والأغنياء، ليعود السؤال مجدداً: لماذا خسر اليسار البرازيلي؟



أزمة عالمية أم محلية؟

لا تتلخّص أزمة يسار البرازيل، في أنّ ماسح الأحذية، لولا دي سيلفا، هو ذلك الرئيس الذي أخذ يوماً من الأغنياء، ليقدّم إلى الفقراء، مبقياً في جيبه بعضاً منه، ولا بفضيحة غسيل السيارات، التي أطاحت حتى برأس هرم النخبة التي حكمت البلاد منذ بداية الألفية الثالثة، وعملاق السياسة البرازيلية، الذي عمق في الـ2018، مشاعر اللامبالاة بالسياسة على المستوى الشعبي، ولو أن الإرباك السياسي الذي تعيشه البرازيل اليوم هو نتيجة حتمية لهذا السقوط المدوي، الذي استغله سجل بولسونارو "النظيف"، ومعه تعهّده بمحاربة "الانتفاخ البيروقراطي".

فقد سبق صعود هذا المرشّح غير المعروف (بولسونارو)، وصول اليمين في عدد من بلدان أميركا اللاتينية إلى السلطة، بعد موجة الـ"بينك تايد"، أو ما بعد النيو الليبرالية، التي شهدها نصف القارة الأميركية الجنوبية، بعد عصر من اللامساواة، والتي كانت ماكينتها فورةً للسلع هي الأكبر في العصر الحديث. ولكن الفورة التي انتهت في عام 2012، بانكماشٍ غير مسبوق، مع تباطؤ الاقتصاد الصيني خصوصاً، كان كفيلاً بإعادة ضخّ آمال الشمال، بانتهاء "موضة التشافيزية" في الجنوب. وهو انتهاء سرى على عددٍ من الدول اللاتينية في القارة، وتواطأت معه فضائح الفساد. بهذا المعنى، ارتفعت أحلام النخبة التي سبقت حكم اليسار، الكنيسة والعسكر والأوليغارشية، ومعهم "بارونات" الصناعة، بدعم من الولايات المتحدة، في مواجهة الفقراء والحركات النسوية والمهمشين في الجنس واللون، الذين كانوا يطلبون المزيد.

وتجمع مبررات سقوط اليسار اللاتيني، الذي تميّز بالفرادة، على المتغيرات البنيوية التي تسير قدماً في الاقتصاد السياسي في العالم، والتي تجعل معها "تكتيكات" اليسار التقليدية، كبرنامج "المحفظة العائلية" لـ لولا مثلاً، غير مجدية، مع عدم تمكّن قطاع واسع من العمال من الفوز بمكان لهم، في بنية العمل الرأسمالية، التي لم تتخطّها كثيراً أميركا اللاتينية، باستثناء كوبا. وقد سعت حكومات اليسار في البرازيل، إلى التوفيق بين السياسات التقدمية ومتطلبات النيوليبرالية الاقتصادية، بالاعتماد خصوصاً في عهد لولا على البورجوازية الصغيرة، التي عادت وتجمّدت مع فضيحة شركة النفط الوطنية، "بتروبراس". وكما يشرح باحثون: فإنّ "دور طبقة رجال الأعمال الوطنية في البرازيل قد انتهى"، فاتحاً المجال لعودة "المال الأميركي".

ولكن لماذا بولسونارو؟

لا يشفع كثيراً لجايير بولسونارو ما يقال عنه بأنه "نظيف الكف". العائلة تدخل السياسة من الباب العريض، مع أولاد أصبحوا في الكونغرس، ودعم غير مسبوق من كبار المستثمرين، ووعود بخصخصة القطاع العام، يقودها مرشحوه للوزارات الاقتصادية، تراجع قليلاً عنها خطابه مع احتدام المنافسة. وكذلك يحظى هذا المرشح بدعم الإنجيليين، ليصبح بحق "ترامب البرازيل". وتخشى شريحة واسعة من البرازيليين أن يتعرّض بولسونارو لقضية إصلاح نظام التقاعد، الحساسة، لعلاج الميزانية، وهي قضية يصفها مراقبون بأنها كـ"الفيل في الغرفة"، وقنبلة البرازيل. وقد لا تعدّ الكوارث التي قد يأتي بها هذا العسكري السابق، الذي يحنّ إلى الحكم العسكري، والمؤمن بالعنف واستخدام السلاح والتعذيب، والمعادي لحقوق المثليين والفقراء والنساء، والمهدد للاستقرار البيئي في بلاد الأمازون.

باختصار، يُحيي بولسونارو، من الباب العريض، كما أحيا ترامب قبله، عودة تجمع "لحم البقر وخراطيش السلاح والإنجيل" في البرازيل، في إشارة إلى اللوبي المؤثر الذي انتفض بعد عزل روسيف، وهو يجمع أصحاب المزارع والإنجيليين وتجار السلاح.

الاختصار أيضاً، لا يمنع الأمل اعتماداً على حقائق عدة: الكونغرس الذي أعاد اليوم انتخاب نفسه في البرازيل، لن يسمح لبولسونارو بـ"الشطح" كثيراً. فساد النخبة سيبقى مستشرياً بأمل إعادة يسار مشرذم لتأسيس نفسه. كرنفال البرازيل يقترب، وبعده سكرة اليمين المتطرف قد تكون إلى أفول، أو برازيل إلى مزيد من الفوضى.