الدعم السعودي للبوسنة والهرسك.. من زمن الحرب إلى زمن السلم

الملك عبد الله يشيد بالإنجازات التي تحققت.. والأمير سلمان: بلادنا صاحبة رسالة عالمية وحضور في دوائر العون الإنساني

الأمير سلمان يتقلد وسام «ابن البوسنة البار» الذي منحته إياه الحكومة البوسنية، حيث قلده الوسام الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش
TT

سجلت السعودية الريادة في الأعمال الخيرية والإنسانية، وكان حضورها في الوقوف مع الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم أجمع استشعارا بمسؤولياتها ودورها الحضاري ملموسا، حيث قدمت خلال التاريخ المعاصر الدعم المباشر والفوري للمتضررين، وقامت بنشر الرعاية الطبية لهم وإعادة بناء الأسر التي شردتها الحروب، إضافة إلى إعادة البناء والإعمار للمناطق المتضررة في العالم، مع تقديم الدعم السياسي والمعنوي والإغاثي لكل الشعوب التي مرت بها المحن، ودعم مؤسسات المجتمع المدني في عدد من الدول للاضطلاع بدورها في تعزيز وحدة النسيج الاجتماعي وتعميق أواصر الصلة بين مختلف فئات الشعوب المتضررة.

وتعد الهيئة السعودية العليا لمساعدة البوسنة والهرسك التي تأسست قبل عقدين، وتم تشكيلها بأمر من الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، برئاسة الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، نموذجا فريدا للدور الريادي للسعودية حكومة وشعبا في دعم مختلف القضايا الإنسانية. وأبرز التقرير الختامي الذي صدر عن الهيئة مؤخرا الجهود التي بذلت من قبل السعودية في تخفيف المأساة في ربوع جمهورية البوسنة والهرسك، والبرامج والدعم والمؤازرة التي اضطلع مكتب الهيئة الإقليمي في أوروبا بتنفيذها حتى عاد السلم والاستقرار إلى الجمهورية.

ووجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، شكره للأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض رئيس الهيئة العليا لجمع التبرعات لمسلمي البوسنة والهرسك، بمناسبة تلقيه نسخة من التقرير الختامي لجهود وإنجازات الهيئة بعد اختتام أعمالها. وقال خادم الحرمين الشريفين في برقية جوابية للأمير سلمان «تلقينا كتاب سموكم المرفق به نسخة من التقرير الختامي لجهود وإنجازات الهيئة بعد اختتام أعمالها، وإننا إذ نشيد بما بذلته الهيئة من جهود خيرة لنشكركم على ذلك، سائلين المولى عز وجل أن يوفقنا لكل ما من شأنه نصرة الإسلام والمسلمين، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب».

وأكد الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض رئيس الهيئة السعودية العليا لمساعدة البوسنة والهرسك، على الارتياح الكبير لما تم تقديمه من دعم ومؤازرة من خلال البرامج والمشروعات التي نفذتها الهيئة في ذلك الإقليم. وقال الأمير سلمان في تقديمه للتقرير الختامي الصادر عن الهيئة السعودية العليا لمساعدة شعب البوسنة والهرسك بصفته رئيسا للهيئة «تستشعر المملكة العربية السعودية - قيادة وشعبا - دورها الحضاري والإنساني تجاه المجتمع الدولي عموما والمجتمع العربي والإسلامي خصوصا، كونها دولة رائدة وصاحبة رسالة عالمية وقبلة للمسلمين قاطبة، وذات وزن اقتصادي وثقل حضاري وثقافي أهلها للحضور في دوائر العون الإنساني الإقليمي والدولي ونقلها إلى مقدمة الدول التي تأنس برأيها منظمات الغوث العالمية الرسمية منها والطوعية، وتعول على دعمها وتفاعلها في الملمات والكوارث الخطيرة التي تتطلب تحركا إنسانيا عاجلا، وهي تضطلع - بحكم ثوابتها ووضعيتها التاريخية كأرض رسالات وبما حباها الله بها من نعم - بواجبات ضخمة ومهمات جسيمة في مجال صيانة العلاقات الإنسانية ودعم وتطوير روابط التعاون الدولي من أجل تأمين الدعم الإنساني للمتأثرين بالكوارث الطبيعية والحروب».

وأضاف الأمير سلمان «ويسجل التاريخ المعاصر في سجلاته الرسمية والشعبية وقوف المملكة العربية السعودية مع الشعوب العربية والإسلامية، بل وشعوب العالم أجمع، في كل المحن والابتلاءات، تضمد الجراح، وتوفر الغذاء والكساء والمأوى للمتضررين في مواقعهم داخل بلدانهم، بل وتنقل المصابين الذين تتطلب حالاتهم عناية خاصة أو علاجا سريعا إلى مستشفياتها إلى أن تستقر أوضاعهم».

وشدد بالقول «وقد ظلت المملكة العربية السعودية - ملكا وقيادة وحكومة وشعبا - تستأثر بموقف الريادة وتملك زمام المبادرة في ما يتعلق بالدعم السياسي والمعنوي والإغاثي لشعب البوسنة منذ بداية المحنة عام 1990، وقدم أبناؤها الكثير من أجل أشقائهم في البوسنة.. مساعدات عينية ومساعدات مالية مباشرة متصلة في مجالات دعم وإصلاح البنية التحتية، وكذلك دعم القطاعات التعليمية والصحية والإنمائية والاجتماعية وغيرها».

وزاد الأمير سلمان بالقول «ووقف الشعب السعودي مع أشقائه وقفة أمينة وصادقة سيسجلها التاريخ بأحرف من نور، واستمرت المساعدات السعودية - على اختلاف مجالاتها - لإغاثة الشعب البوسني، ولم تتعثر ولم تتوقف، وذلك من خلال الهيئة العليا لإغاثة شعب البوسنة والهرسك.. وبعد الجهود المستمرة من المجتمع الدولي والتي أدت إلى توقف الحرب وفقا لاتفاقية دايتون، كان التوجيه الكريم بشأن تقديم الدعم العاجل لعملية إعادة البناء والإعمار، إلى جانب الاستمرار في تقديم المساعدات لمختلف البرامج الإغاثية، وقد كان الجهد على قدر همم الخيرين بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - يرحمه الله - والذي كان من أبرز الداعمين والمهتمين بهذه القضية»، مضيفا «ومما لا شك فيه أن ما نشاهده اليوم من عودة السلم والاستقرار في ربوع جمهورية البوسنة والهرسك، والمساعي الهادفة إلى تضميد الجراح وأن ينعم الكل بالعيش الآمن والرخاء لتأسيس دولة التعايش والحقوق بين الجميع، لأمر يسر الجميع، كما أنه تجسيد لأثر الجهود التي قدمتها المملكة العربية السعودية من بين الدول المانحة التي أسهمت بالقدر الذي خفف من أثر تلك المأساة».

وقال أمير منطقة الرياض رئيس الهيئة السعودية العليا لمساعدة شعب البوسنة والهرسك «ونحن في الهيئة السعودية العليا لمساعدة شعب البوسنة في الوقت الذي نشعر فيه بالارتياح الكبير لما استطعنا تقديمه من دعم ومؤازرة من خلال البرامج والمشروعات التي اضطلع بتنفيذها مكتب الهيئة الإقليمي في أوروبا، فإننا في الوقت نفسه نتمنى للشعب البوسني دوام التقدم ومزيدا من الازدهار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد».

* دور ريادي ونهج جديد في العمل الإغاثي

* إن الأهداف التي وضعتها الهيئة منذ صدور الأمر السامي لإنشائها ترمي في مجملها لإغاثة ودعم شعب البوسنة والهرسك، إبرازا للدور الريادي للمملكة العربية السعودية - حكومة وشعبا - في دعم مختلف القضايا الإنسانية، وتتعدد الأهداف التي تصب في تحقيق الهدف الرئيسي، ومن أهم تلك الأهداف تقديم الدعم المباشر والفوري للمتضررين، والوصول إليهم في مناطق تجمعاتهم، وتغطية معظم احتياجات المتضررين الأساسية من أغذية ومأوى وكساء، وتقديم الرعاية الطبية للمتضررين والمصابين، ورعاية الأطفال والمعاقين وكبار السن، وتقديم كل احتياجاتهم المعيشية، كما تهدف إلى إعادة بناء الأسر التي شردتها الحروب ودعمها ماديا ومعنويا، والتنسيق والتعاون مع الحكومة البوسنية والمنظمات الدولية في البوسنة في تقديم البرامج والمشروعات التي تساعد على احتواء آثار المحنة التي ألمت بالشعب البوسني، ودعم مؤسسات المجتمع المدني للاضطلاع بدورها في تعزيز وحدة النسيج الاجتماعي، وتعميق أواصر الصلة بين مختلف فئات الشعب، والإعراب عن تضامن شعب المملكة العربية السعودية مع شعب البوسنة من خلال إبراز الدور الإنساني والحضاري للمملكة العربية السعودية والذي ينبع من الرسالة الإسلامية، رسالة معونة الإنسان لأخيه الإنسان.

وشهد العمل الخيري العربي والإسلامي تطورا كبيرا في العقد الأخير من القرن الماضي، وذلك من الناحية الإدارية، إذ انتقل العمل في الهيئات الخيرية إلى العمل المؤسسي، مستخدما أحدث الوسائل التكنولوجية، ومن الناحية المالية التي شهدت بدورها نموا كبيرا من ناحية الكم المجموع والكيف المتعلق بطرق الجمع والإضافة إلى الكم المصروف على المشروعات الخيرية، وينطبق هذا على نشاط الهيئة السعودية العليا في تقديم الإغاثة، إذ لم تقتصر أعمالها على جلب الغذاء والكساء والدواء وتقديمه إلى المحتاجين أثناء حدوث الكارثة، ولم يكن نشاطا للطوارئ يهدف إلى سد حاجة المجتمع المحتاج لحظة الحدث، وإنما تعدى كل هذه الأطر المعهودة والتي كان يسير فيها العمل الإغاثي، إذ أسست الهيئة السعودية العليا لإغاثة شعب البوسنة والهرسك على نهج متميز في كيفية تقديم المساعدات، وكانت أرض البوسنة والهرسك نموذجا مثاليا في التطبيق فتعدى جهد الهيئة من كونه جهدا شعبيا تقوم به لجنة أو جمعية تقدم المساعدات إلى ذراع أساسية لدولة في حجم المملكة العربية السعودية تقدم كل المساعدات الرسمية والشعبية كافة بأسلوب علمي وعملي دقيق لامس معظم فئات المتضررين من خلال تقديم برامج الإغاثة العاجلة التي اشتملت على لم شمل الأسر والحفاظ على بيئتها التي تعيش فيها من خلال تقديم كل وسائل الدعم التي تكفل لها العيش بسلام وتعمل على التقليل بدرجة كبيرة من تأثير حجم الكارثة، ومن ثم أعادت الهيئة هذه الأعداد إلى مواطن عيشها بعد استقرار الوضع، وكانت معهم حتى تمكنوا من العودة مرة أخرى إلى حياتهم الطبيعية في فترة ما قبل الحرب. ولم ينته عمل الهيئة بل تعدت مساعداتها ومشروعاتها لتسهم مع الدولة البوسنية في إقامة المشروعات الكبيرة والحيوية، إذ بنت المدن السكنية، وأسهمت في إنشاء خط للسكك الحديدية، وبنت الكليات والمستشفيات والمراكز الثقافية بشكل أدى إلى أن تتبوأ الهيئة السعودية العليا صدارة قائمة الهيئات الإغاثية العاملة في البوسنة والهرسك، حتى من بين الهيئات الدولية والإقليمية، وبذلك يرتبط مفهوم العمل الخيري والتطوعي بالتنمية الشاملة، من خلال الكثير من تلك الأعمال والبرامج التي تستهدف الإنسان وترقى به ابتداء بالفرد ثم الأسرة، ومن ثم تمتد إلى المجتمع بكل صوره..

ففي اتجاه الفرد عملت الهيئة السعودية العليا بالعناية بالفقراء أطفالا ونساء ورجالا من مختلف الفئات العمرية، فكانت المساعدة في اتجاه إيجابي يؤهل ذلك الفرد بعد مضي فترة من المساعدة للاعتماد على نفسه، فكان تقديم المساعدة للأطفال لتأهيل الطفل اليتيم للنهوض بنفسه والاعتماد على قدراته، وذلك من خلال تطوير مفهوم الكفالة ليشمل الرعاية التربوية والصحية والتعليمية بحيث يستفيد اليتيم وأسرته من تلك الخدمات، لينشأ اليتيم قويا واعيا مدركا قادرا على الاختيار والعمل، ورعاية الطالب المحتاج بحيث يتم توجيهه إلى اختيار تخصص الدراسة التي يحقق منها الاستفادة، وأن يكون التخصص في إطار حاجات المجتمع، بالإضافة إلى العناية بالمعاق، إذ تُدرس الحالة ويتم عمل خطة لمساعدتها بحيث ينهض ذلك الفرد بنفسه، فهناك من الأعمال والحرفية ما يمكنه بشيء من التدريب والعناية أن ينهض من خلاله بنفسه.

وبخصوص الأسرة التي تعد عماد المجتمع وبترابطها وصلاحها صلاح المجتمع، فكان اهتمام الهيئة السعودية العليا بالأسر الفقيرة من خلال تأهيلها وتنميتها، بالبحث عن عناصر الإنتاج المحلية المتوافرة في محيط الأسرة وبيئتها، وتنمية تلك العناصر وتحويلها إلى آلة إنتاج من خلال التدريب وتوفير وتمليك وسائل وأدوات الإنتاج القادرة على تحويل تلك الأسرة من أسرة معالة محتاجة إلى أسرة منتجة قادرة على العطاء بالدخول إلى دورة الاقتصاد القومي لتتمكن من الإسهام في اقتصاد الدولة والمجتمع بشراء وبيع واستخدام السلع والخدمات.

وفي ما يخص جهود الهيئة السعودية العليا لمساعدة شعب البوسنة والهرسك، تشير الشواهد الواقعية والتاريخية إلى أن التنمية تنبع من الإنسان الذي يعد وسيلتها الأساسية، كما أنها تهدف في الوقت ذاته إلى الارتقاء به في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، ومن المسلمات أن التنمية تقوم على الجهد البشري، بالإضافة إلى الخطط المحددة لذلك، ووجود الإنسان الواعي القادر على المشاركة في عمليات التنمية.

ومن هنا ركزت الهيئة السعودية العليا على الاستفادة من الموارد البشرية، وذلك من خلال إتاحة الفرصة لكل أفراد المجتمع للإسهام في عمليات البناء الاجتماعي والاقتصادي وتنمية الإحساس بالمسؤولية لدى المشاركين وإشعارهم بقدرتهم على العطاء وتقديم الخبرة والنصيحة في المجال الذي يتميزون فيه.

ومن الآليات التي اتبعتها الهيئة السعودية العليا لتنفيذ برامجها التنسيق والتعاون مع المؤسسات الرسمية في البوسنة، وذلك للوفاء بالاحتياجات العاجلة والمهمة التي تسهم في الحفاظ على مؤسسات الدولة الخدمية، وتنوعت إسهامات الهيئة في هذا المجال، إذ تعاونت الهيئة وتم التنسيق مع وزارة المهجرين ووزارة الصحة ووزارة التعليم والمشيخة الإسلامية ووزارة المواصلات، الأمر الذي مكن من ملامسة هذه المشروعات لكل شرائح المجتمع البوسني بدءا من توفير المأوى والغذاء والدواء إلى النهوض بالمؤسسات التعليمية، انتهاء بالمشروعات التي أسهمت في تنمية البنية التحتية للدولة.

وطرقت الهيئة السعودية العليا مجالا مهما أدى إلى خدمة القضية البوسنية على نطاق واسع، وذلك من خلال تسيير الوفود الإعلامية في وقت الأزمة وإبان الحصار، إذ رتبت الهيئة السعودية العليا واستقبلت أكثر من ثمانية وفود إعلامية زارت جمهورية البوسنة والهرسك، فكانت نتائج هذه الزيارات أن صححت بالصورة والصوت والقلم كثيرا من المعلومات المغلوطة التي ظلت تروج لها بعض دوائر الإعلام الغربية، كما كشفت عن الكثير من الحقائق التي كانت خافية على الأمة الإسلامية جمعاء، وقد أفادت تلك المعومات في كثير من الأعمال الصحافية والإغاثية وغيرها.

فضلا عن ذلك فإن الهيئة السعودية العليا أسست مراكز إعلامية مختلفة، وظلت هذه المراكز تصدر باستمرار تقارير دورية غاية في الأهمية وغاية في الدقة والتوثيق، كما ظلت تصدر النداءات والمطبوعات والإصدارات المختلفة التي يتعلق بعضها بتبيان حقائق حول القضية البوسنية، في حين يتعلق بعضها الآخر ببرامج ومشروعات تنفذها الهيئة السعودية العليا لصالح المسؤولين هناك، وكانت أهم النشاطات الإعلامية التي قامت بها الهيئة السعودية العليا تنظيم زيارة الوفود الصحافية للبوسنة والهرسك، وتسجيل هذه الزيارات وتوثيقها بالكلمة والصورة، وإصدار نشرة باسم حصاد الخير وهي توثيق لأنشطة الهيئة الإغاثية في مختلف المجالات، وتعد من المراجع المهمة لوسائل الإعلام، وإصدار نشرة أسبوعية باسم «الترجمان» يتم من خلالها نشر ترجمة لبعض المقالات والتحليلات المتعلقة بالقضية البوسنية، وكذلك الأضواء التي تسلط على مشروعات وبرامج الهيئة من خلال الصحف البوسنية والدولية، وإعداد نسخ من أفلام الفيديو، وجمع مواد إعلامية من وثائق وخرائط وكتب وصور، وإجراء مقابلات صحافية كثيرة مع المهجرين والمتضررين والمنتفعين من برامج ومشروعات الهيئة، وكذلك مع المسؤولين في الإدارات الحكومية والوزراء في الحكومة البوسنية ورؤساء الأقاليم البوسنية.

وتميزت الهيئة ونشاطها في مجال العمل الخيري باعتمادها سياسة الشفافية وإقناع المتبرعين في القطاع الخاص بحيوية المشروعات والبرامج التي تنفذها، وإشراك القطاع الخاص في إبداء الرأي والمشورة والأخذ بمقترحاته في اختيار المشروعات، الأمر الذي يجعله متبنيا ومنتسبا للأفكار المطروحة، وإطلاع الشركات والمساهمين في تمويل المشروعات الخيرية بشكل موثق وشفاف على النتائج المتحققة عن المشروعات المساهم في تمويلها، ودعوة القائمين على مؤسسات القطاع الخاص لتحمل مسؤولياتهم نحو المجتمع من خلال الإسهام في مشروعات التنمية والبرامج الإنسانية.

ولعل أثر نشاط الهيئة في أسلوب العمل يتمثل في أنها أسست الهيئة السعودية العليا للعمل الإغاثي المنظم من خلال تطبيق آليات التواصل والتعاون الفعلي بين المؤسسات العاملة في الحقل الخيري، مما يجعل الاستفادة متبادلة من الخبرات والإمكانات المتاحة، الأمر الذي يؤدي إلى تفادي تكرار الأعمال والبرامج وتشتيت الجهود، كما تعد الهيئة السعودية العليا من أوائل الهيئات والمؤسسات السعودية الخيرية التي انتهجت وسيلة الحملات التلفزيونية لتصل إلى جميع فئات المجتمع في وقت وجيز هادفة بذلك إلى التعريف بحجم المأساة وتلقي دعم المتبرعين، كما واكبت الهيئة السعودية العليا في عملها التقنيات والتطورات في عالم الإدارة، مما عزز الارتقاء بأدائها وتفعيل برامجها ومشروعاتها لتحقيق أكبر استفادة من جانب المتلقي للمساعدة.

وحددت الهيئة السعودية العليا أهدافها، ورسمت استراتيجيتها بوضوح بعيدا عن العموميات، من خلال تحديد الأطر التي تعمل بها وترقب في ممارستها، كما كانت الهيئة السعودية العليا البادئة في تقديم الإغاثة من خلال الكوادر السعودية في كل مكاتبها بالخارج، وأسهمت الهيئة في إحداث نوع من التوازن النوعي والحفاظ على الهوية القومية من خلال تنفيذها لبعض المشروعات الأساسية في البوسنة والهرسك، حيث كان مشروع مدينة برتشكو خير مثال على ذلك، كما تعد الهيئة السعودية العليا أول هيئة سعودية تعمل في مجال المساعدات تفوز بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام من خلال جهودها في البوسنة والهرسك.

* ملامح الإنجازات

* سطرت السعودية حكومة وشعبا أروع الملاحم في تبني قضايا المسلمين، فقد شهد العقد الماضي والعقد الحالي سباقا محموما بين الدولة والمواطنين في دعم قضايا المسلمين، حتى إنه بفضل الله ثم بفضل هذا التلاحم الرسمي والشعبي تم انتشال الكثير من المستضعفين واحتواؤهم تحت مظلة العمل الخيري.

وقد جاء في كلمة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، أثناء انعقاد المؤتمر الاستثنائي لوزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي لبحث الوضع في البوسنة والهرسك في جدة (في الفترة من 1 - 2 ديسمبر/ كانون الأول 1992) أن «المملكة العربية السعودية تلبية لواجبها الإسلامي تواصل دائما جهودها ومساعيها على مختلف الأصعدة العربية والإسلامية والدولية لنصرة الحق ومساندة المظلوم، ودحر قوى البغي والعدوان، مع المبادرة إلى مساعدة الأشقاء في كل مكان، ومن هذا المنطلق الإسلامي والإنساني أولت المملكة اهتماما خاصا بالوضع في جمهورية البوسنة والهرسك».

وأعلنت المملكة تأييدها للتوصيات والقرارات الصادرة عن مؤتمر لندن، وتضافرت الجهود من أجل وضع تلك القرارات موضع التنفيذ الجدي، والتأكيد على ضرورة ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى مواطني البوسنة والهرسك لا سيما في ظل تفاقم المعاناة التي كانوا يعيشونها.

كما أن الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش، تحدث في مدينة جدة عام 1992 بعد أول لقاء جمعه بالأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض رئيس الهيئة السعودية العليا لمساعدة شعب البوسنة والهرسك، قائلا عن الأمير «إن دخول سمو الأمير سلمان يعد منعطفا مهما في دعم صمود شعبنا، حيث ساند قضيتنا إلى أن وقفت على أقدامها».

وفي حديث لاحق للرئيس البوسني قال «إن للمملكة العربية السعودية أيادي بيضاء في البوسنة، لن تمحى من ذاكرة التاريخ، فجميعنا يتذكر حملات خادم الحرمين الشريفين لجمع التبرعات لصالح البوسنة أثناء الحرب»، وتابع قائلا «إن مؤشرات المساعدات السعودية للبوسنة لا تزال ظاهرة في عشرات المستشفيات، وفي المعاهد العلمية، وفي المدارس، وفي مئات المساجد، وفي آلاف البيوت التي رُممت وبنيت بالمساعدات السعودية، الأمر الذي مكن المهجرين من العودة إلى ديارهم، ومهما عددنا أنواع المساعدات التي تلقتها البوسنة من المملكة فلن نقدر على ذلك، لأن لها أبعادا أكثر وأكبر من حجمها المادي.. إنها رباط معنوي قوي نستشعره ونقدره أيما تقدير».

وفي أثناء الزيارة التي قام بها الأمير سلمان بن عبد العزيز لجمهورية البوسنة والهرسك لافتتاح المشروعات التي أنشأتها الهيئة السعودية العليا، قال ميرزا خيرتش، المستشار السياسي للرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش «لقد زار البوسنة عدد كبير من المسؤولين الدوليين ورؤساء الحكومات المختلفة، وشهدت معظم تلك الزيارات، لكني لم أر سراييفو تخرج بهذا الكم الهائل وبهذا الرصيد المجيد على النحو الذي حدث إبان زيارة الأمير سلمان بن عبد العزيز لبلادنا».

إن الحضور الذي شهده هذا الافتتاح تجاوز كل التوقعات، ولم يقتصر الأمر على سكان العاصمة فحسب، بل إن البوسنيين تداعوا من كل حدب وصوب لحضور هذا الافتتاح، وقدر عدد الحضور وقتها بأكثر من 300 ألف شخص.

وقد اختيرت الهيئة السعودية العليا لمساعدة شعب البوسنة والهرسك - التي يرأسها الأمير سلمان بن عبد العزيز - كأفضل هيئة إغاثية قدمت أفضل برامج إغاثية في منطقة بيهاتش، وذلك من خلال تنفيذ مشروعات متكاملة لإغاثة منطقة بيهاتش استمرت لأكثر من ثماني سنوات، أدخلت خلالها آلاف الأطنان من المواد الغذائية المختلفة، بالإضافة إلى المساعدات الطبية التي اشتملت على توفير الأدوية والأجهزة العلاجية المختلفة، فضلا عن المساعدات في مجال رعاية الأيتام ودعم الأسر المحتاجة وتنفيذ مساعدات مقدرة في مجال التعليم، بالإضافة إلى ما أرسل إلى مدينة بيهاتش إبان الحصار الذي كان مفروضا عليها، والذي بلغ أكثر من 2140 طنا من مواد الإغاثة المختلفة وغيرها من المواد التي أسهمت إلى حد كبير في التخفيف من معاناة سكان المدينة في ذلك الوقت.

كما سبقت الإشارة إلى أن الهيئة السعودية العليا قد منحت جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، فلولا جهود كبيرة بذلت، ولولا عطاء متصل أنفق، ولولا خطط وبرامج مدروسة تحققت، لما تحقق هذا الإنجاز الكبير.

فالهيئة السعودية العليا قد بذلت جهودا كبيرة في مجال توفير المواد الغذائية التي تجاوز حجمها أكثر من 110 آلاف طن من مختلف المواد، أمكن إدخالها في ظروف قاسية بالغة الخطورة إبان الحصار الطويل والقصف المستمر للمدن البوسنية في تلك الفترة، فكانت الهيئة السعودية العليا أول من دخل تلك المدن المحاصرة بقوافل الإغاثة والغذاء والدعم.

وفي المجال الصحي وفرت الهيئة السعودية العليا كميات كبيرة من الأدوية العلاجية المختلفة، كما وفرت أعدادا كبيرة من الأجهزة الطبية لمختلف مستشفيات المدن البوسنية، فضلا عن ذلك فإنها قد كفلت عددا كبيرا من الأطباء والكوادر المختلفة في المجال الصحي، بالإضافة إلى أنها نقلت أعدادا كبيرة من المرضى البوسنيين ومن معاقي الحرب لتلقي العلاج في مستشفيات السعودية وغيرها من المستشفيات في دول العالم المختلفة. أيضا وفرت الهيئة السعودية العليا البذور للمزارعين، كما وفرت وسائل التدفئة المختلفة من المازوت والحطب والغاز للمؤسسات البوسنية المختلفة حتى لا تنقطع عن أداء دورها ورسالتها خلال الشتاء.

كما أسهمت الهيئة السعودية العليا في صيانة وإنشاء خطوط السكك الحديدية بين بلوتشا وبيزرتش، وبنيت برتشكو المدينة الاستراتيجية المهمة في مشروع يشبه الإعجاز تماما حتى غدت ذات موقع استراتيجي مهم وبعيدة عن الاستقطاب ومحاوره الخطرة التي كانت تدور حول المدينة قبل تنفيذ المشروع.

وإداريا، يمكن القول إن الهيئة السعودية العليا قد انتقلت بالعمل الإغاثي إلى مراحل متقدمة في مجال إدارة العمل الخيري والتطوعي والإنساني، من خلال كم هائل من البيانات التفصيلية والأرقام الدقيقة عن مسيرة الهيئة السعودية العليا ومنجزاتها التي تحققت، الأمر الذي يؤكد دقة عملها وتقدمها في مجال إدارة العمل الإغاثي، لتضاف بذلك هذه التجربة الفريدة لسجل العمل الإغاثي الإسلامي خاصة والإنساني عامة.