المسرح المنكوب؛ ممّا شهدته خشبات حيفا ويافا

إسكندر أيّوب بدران (يسار) خلال إحدى مسرحيّاته

كانت بدايات المسرح الجماهيريّ أو الشّعبيّ في فلسطين بعد الحرب العالميّة الأولى، لكن قبل ذلك، وفّرت بعض المدارس التّبشيريّة على وجه الخصوص، فُسَحًا من النّشاط المسرحيّ داخلها، أي لطلّابها الّذين قدّموا مشاهد مسرحيّة، غالبها مستوحًى من قصص دينيّة.

هكذا بدأ المسرح

أمّا العوامل الّتي أدّت إلى حضور المسرح في فترة الانتداب البريطانيّ على فلسطين، فمردّها إلى فتح باب حرّيّات التّعبير عن الرّأي، ليس مِنّة من حكومة الانتداب، بل لتخفيف الاحتجاجات ضدّ سياساتها، وللتّغييرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي فرضت ذاتها، ولقدرة الشّعب الفلسطينيّ على مواكبة الدّيناميكيّة الحضاريّة الحاصلة.

ومع كلّ هذا، نشطت الحياة المسرحيّة في عدد محدود من المدن الفلسطينيّة، في مقدّمتها يافا وحيفا والقدس، وقد تمتّعت كلٌّ من يافا وحيفا بقسط وافر من هذا النّشاط على مستويين؛ الأوّل: داخليّ، بمعنى فرق مسرحيّة من المدينتين ساهمت في النّشاط المسرحيّ. والثّاني: فرق مسرحيّة وافدة إليها من مصر بخاصّة، ولبنان وسوريا. بالإضافة إلى استهلاك شريحة محدودة من العرب في المدن الفلسطينيّة المختلطة لعروض مسرحيّة بلغات غير عربيّة، كالإنجليزيّة والفرنسيّة والرّوسيّة.

حيفا

احتاج المستوى الأوّل إلى مؤلّفات مسرحيّة تُحاكي الحالة الاجتماعيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة والقوميّة في فلسطين، فبادر جميل البحري من حيفا إلى تأليف مسرحيّات عديدة، كما عمد إلى تعريب بعض منها عن الفرنسيّة بشكل خاص، لثقافته الفرنسيّة. عُرِضَ بعض هذه المسرحيّات على خشبات المدارس أوّلًا، ثمّ أمام الجمهور الواسع في بعض المقاهي والمتنزّهات ومن ثمّ القاعات؛ ومن أبرز ما كتبه من مسرحيّات: 'قاتل أخيه'، 'اللّصّ الظّريف'، 'في سبيل الشّرف'، 'أبو مسلم الخراسانيّ'، 'الخائن'، 'وفاء العرب'، 'حصار طبريّا'، وكلّ هذه مُثّلت في العشرينات من القرن الماضي.

ومن المؤلّفين المسرحيّين الآخرين في حيفا، نجيب نصّار، صاحب ومحرّر جريدة 'الكرمل'، وقد ساهم في الكتابة في هذا المجال بمسرحيّتيه، 'وفاء العرب' و 'شمم العرب'، واللّتين أراد من خلالهما تعريف أبناء شعبه بمآثر أجداده وعاداتهم وتقاليدهم، وتعزيز روح الانتماء القوميّ. مُثّلَتْ مسرحيّتا نصّار على مسرح مدرسة البنات الإسلاميّة، التّابعة للجمعيّة الإسلاميّة في حيفا، ومسرح مدرسة البنات الإنجليزيّة العليا، التّابعة للكنيسة الإنجيليّة الأسقفيّة.

وكانت لعزيز ضومط مساهمة لافتة جدًّا في مجال الكتابة المسرحيّة، وقد حصّل ثقافة ألمانيّة، ومن مسرحيّاته: 'حسن' و'والي عكّا'، وهذه مُثّلت على أحد مسارح ألمانيا، بالإضافة إلى مسرحيّة 'آخر بني أميّة'، الّتي ترجمها شقيقه أمين ضومط، وقد مُثّلت على مسرح الكرمل الحيفاويّ.

هاملت

بدأت الحركة المسرحيّة تتبلور مهنيًّا في نهاية ثلاثينات القرن الماضي ومطلع الأربعينات، من خلال المشروع الضّخم الّذي بادر إلى إقامته إسكندر أيّوب بدران، متمثّلًا بفرقة الكرمل التّمثيليّة.

قدّمت فرقة الكرمل مجموعة من التّمثيليّات على خشبة مسارح المدينة، كان أبرزها، بل أضخمها، عمل شكسبير المسرحيّ اللّافت، 'هاملت'، عام 1944، كما قدّمت على مسرح عين دور الّذي يتّسع لأكثر من ألف مقعد، وقد شارك في التّمثيل ممثّلون مهنيّون بمفهوم ذاك الزّمن، ولاقت رواجًا كبيرًا وحضورًا مميّزًا من حيفا وخارجها.

وجدير ذكره أنّه كانت لجمعيّة الهلال الأحمر بحيفا، فرقة تمثيل مسرحيّة تُقدّم عروضًا مسرحيّة يُرصد ريعها لدعم الجمعيّة ونشاطها.

أمّا نادي الشّبيبة الأرثوذكسيّة، فقدّم تمثيلتي 'الشّهادة والوفاء' و 'في سبيل التّاج'، وحذا حذوه نادي فرقة الكشّافة المارونيّة بتقديم مسرحيّة 'المُلك المغتصب'، بالإضافة إلى مبادرات جمعيّات ونوادٍ مستقلّة أو تابعة لطوائف دينيّة في حيفا.

المسرح العربيّ

أمّا المستوى الثّاني، فهو حضور فرق تمثيليّة من مصر بخاصّة، أبرزها فرقة رمسيس ليوسف وهبي، عميد المسرح العربيّ، وذلك في فترة مبكرة، وتحديدًا منذ نهاية العشرينات. لكن في كلّ جولة عروض لوهبي، وأيضًا جورج أبيض، المسرحيّ اللّامع، كانا يمرّان بيافا وحيفا متّجهين إلى بيروت.

من العروض المسرحيّة الّتي قدّمتها فرقة رمسيس، كان مسرحيّة 'أولاد الشّوارع'، الّذي تبرّع بمدخولاته لصالح الأطفال اليتامى الّذين يرعاهم صندوق لجنة اليتيم العربيّ، كما عرضت مسرحيّات 'كرسيّ الاعتراف'، و 'بنات اليوم'، و 'بنات الرّيف'، وغيرها.

عُرِضَت بعض المسرحيّات على مسرح سينما كولزيوم في شارع اللّنبي بحيفا، وهو يعدّ من أوائل دور العرض في المدينة، ثمّ مسرح ومتنزّه بستان الانشراح، والّذي استقطب أيضًا مجموعة كبيرة من المطربين كأمّ كلثوم، ومسرح القهوة الجديدة، ومسرح قهوة سنترال، ومسرح قهوة زهرة الشّرق، ومسرح سينما عدن.

يافا

أمّا يافا، والّتي كانت السّبّاقة إلى استقبال الأعمال المسرحيّة، فكانت مسيرتها مع المسرح المدرسيّ من خلال نشاطات المدارس التّبشيريّة والجمعيّات الثّقافيّة والطّائفيّة. ومن أشهر المؤسّسات اليافيّة الّتي اهتمّت بالمسرح، النّادي الرّياضيّ الإسلاميّ، حيث كان يقيم عروضًا مسرحيّة وأنشطة ثقافيّة أخرى في موسم النّبي روبين في الصّيف، وعروضًا مسرحيّة في الشّتاء على مسرح سينما الحمرا الشّهير.

ومن بين الرّوايات الّتي مثّلها هذا النّادي، 'الشّاعر' للمنفلوطي، والّتي حوّلها الدّكتور يوسف هيكل، رئيس بلديّة يافا، إلى عمل مسرحيّ. كما ساهم النّادي الأرثوذكسيّ أيضًا، بالعديد من الأعمال المسرحيّة الّتي قُدّمت على خشبات مسارح يافا لجمهور واسع.

مسرحيّات إذاعيّة

أتاحت إذاعة الشّرق الأدنى، والّتي تأسّست في يافا، فسحة كبيرة لمساهمة مؤلّفين وممثّلين مسرحيّين في تقديم أعمال مسرحيّة إذاعيّة، وهذا نوع جديد من التّواصل المسرحيّ مع الجمهور، بحيث يتاح له تلقّي المسرح وتخيّله والتّفاعل معه سماعيًّا.

أمّا الفرق المسرحيّة الخارجيّة الّتي وصلت إلى يافا، وبعض منها تابع طريقه إلى حيفا: فرقة رمسيس ليوسف وهبي، وفرقة علي الكسّار الّتي دأبت على تقديم المسرحيّات الكوميديّة والغنائيّة، وفرقة نجيب الرّيحاني، والفرقة القوميّة المصريّة الّتي قدّمت 'لويس الرّابع عشر' و'مجنون ليلى'، ومن أبرز ممثّليها: أحمد علّام، وحسين رياض، وزينب صدقي، وفردوس حسن.

رغم المأساة

ساهمت الأعمال المسرحيّة من إنتاج محلّيّ (فلسطينيّ) وعربيّ وافد، في إثراء الحياة الثّقافيّة والاجتماعيّة، وأبرزت اهتمام الفلسطينيّين من سكّان المدن والرّيف، على حدٍّ سواء، في تعزيز ثقافتهم وعلاقتهم مع محيطهم العربيّ؛ كما بيّن زخم عروض الفرق المسرحيّة العربيّة الوافدة إلى فلسطين، مدى قدرة الفلسطينيّين على تلقّي هذه الأعمال والتّفاعل معها. ولا بُدّ من الإشارة إلى قدرة الفلسطينيّين على إنتاج فنون مختلفة، ومن بينها المسرح، وهو ما يعكس مستوًى متقدّمًا من الفكر والحرّيّة.

هذا النّشاط المسرحيّ الزّخم والمميّز توقّف عام 1948، في أعقاب تنفيذ واحدة من أبشع جرائم الإبادة البشريّة والثّقافيّة ضدّ الشّعب الفلسطينيّ، على يد المشروع الصّهيونيّ. ورغم مأساة هذا العام، إلّا أنّ الفلسطينيّين، سواء الباقين في أرضهم أو المهجّرين منها قسريًّا، عادوا إلى تأسيس مسارح محلّيّة وعربيّة، واخترقوا من خلال أعمالهم جدران العزلة والحرمان، وهذا الجانب بحاجة إلى مقال آخر.

تُنشر هذه المقالة ضمن ملفّ مِفْتاح، الّذي أعدّته مجلّة فُسْحَة لمناسبة الذّكرى الـ 68 لنكبة الشّعب الفلسطينيّ عام 1948، ويشارك فيه عددٌ من الكتّاب والمختصّين الفلسطينيّين.