“ رسالة عزاء إلى مصر ”
“ رسالة عزاء إلى مصر ”
مصرُ هذا حبي, وهذا إخائي ** وقوافي شعري تزفّ عزائي
قلمي يذرف الحروف, وعيني ** تذرف الدمع والأنين حدائي
ودروبي تسير بي لاهثاتٍ **مفعماتٍ بحسرتي وشقائي
وقف الشعر عند باب أنيني** قلق الوزن, واجـم الإيحاءِ
مصر , يامصر , من الذي زلزل ** الارض وأدمى مشاعر الغبراءِ ؟
من ذا الذي شرّد العصافير حتى ** نسيت في الصباح معنى الغناء ؟
من ذا الذي ألجم الفصيح فأمسى** عاجزاً عن عبارة إستجداء ؟
من ذا الذي أجفل القريب فولّى ** هارباً ذاهلاً عن الأقرباء ؟
كيف صارت هذي قلاع يباباً**وهي بالأمس سامقاتُ البناءِ ؟
كيف صار الإنسان فيها صغيراً ** عاجزاً عن تحمُل الأعباءِ
هي بالأمس مسرح لحياتي ** وهي باليوم مسرح للفناءِ ؟
مالها أصبحت مقابر موتى** وهي بالأمس مسكن الأحياءِ ؟
أين يامصر قوة الناس هلّا ** أوقفوا عن ثراكِ أمر القضاءِ ؟
هكذا بين غمضةٍ وانتباهٍ **تتلاشى مهارة الخبراءِ ؟
أين دعوة المستكبرين لماذا ** هربوا من عباءة الكبرياءِ ؟
أين يامصر ذكريهم وقولي** لدعاة الضلال والأهواءِ ؟
حينما يكتب المهيمن أمراً ** يصبح الأقوياء كالضعفاءِ
مصر , يامصر ماجت الأرض حتى ** أصبح الاقربون كالغرباءِ
آهِ من صرخةٍ طواها ركامٌ ** آهٍ مما تراه مقلة راءِ
طفلةٌ عذبة الطفولةِ تبكي ** وأبوها وممزّق الأشلاءِ
وهنا الأمُ جُمّع الحزنُ حتى ** صار في وجهها رسوم شقائي
وعروسٌ كانت تمد يديها ** في إشتياقٍ إلى الرُبى الخضراءِ
طلبوها فما رأوا غير كفٍ ** وحذاءٍ وقطعة من رداء
ورأوا قُرطها وحيداً حزيناً ** قابعاً خلف صخرةِ صمّاء
وأبٌ مقلتاه نبعا شرودٍ ** يتلقى العزاء في الأبناءِ
ربما قال للمعزّين شيئاً ** وهو يرنوا بطرفه للسماءِ
طيف أبناءه يناديه, لكن ** حالت الحادثات دون اللقاءِ
وعجوزٌ عصاه تحمل جسماً ** هيكلياً يسير كالمومياءِ
يسأل الناس: هل رأيتم بناتي**أين نجوى, وأين وجه صفاءِ؟؟!
ويجيب الركامُ أقسى جوابٍ ** ويدير المسكين طرف انزواءِ
ويرى الخطب في وجوهِ رجالٍ ** قد تراء وفي وجوه نساءِ
ويرى ألف منزلاً تتهاوى ** في ثوانٍ معدودةٍ سوداء
كلما لاح خيال صريعٍ ** تحت أنقاذها رفعت دعائي
إيه يامصر هل رأيتِ الرزيا ** والضحايا في سائر الأرجاءِ ؟
هل رأيتِ الهياكل السود تفنى ** في صحاري أفريقيا السوداءِآه يا مصر حين لاح لعيني** وجه طفلٍ مجللّاً بالدماءِ
لميزل في مكانه منذ أمسى ** قبل عام , ممزق الأحشاءِ
لم يزل يذرع الدروب ينادي ** وينادي مستغرقاً في النداءِ
كلـما مـرّ مترفـاً يتعالى ** مدّ كفاً له على إستحياءِ
أعطني كسرةً من الخبز إني ** لم أزل جائعاً بغير غذاءِ
أعطني شربةً من الماء إني ** لم أزل حالماً بقطرة ماءِ
أعطني ثوبك القديم فإني ** لمأزل عارياً بغير كساءِ
أعطني يا أخيحذاءً فإني ** لم أزل حافياً بغير حذاءِ
أعطني يا أخي لحافاً فإني ** أقف اليوم عند باب الشتاءِ
أنا بالأمس بين جدرانبيتي ** و أنا اليوم هاربٌ في العراءِ
كان وجه الصغير لوحة حزنٍ ** علقّت في أنامل البأساءِ
يا لسان الأحداث ما زلتتروي ** كلّ يومٍ حكاية الارزاء
كل يومٍ تضيف قولاً جديداً **عن قطيعٍ مشردٍ ورعاءِ
عن ألوف الآبار تزداد عمقاً ** في ثرى الأرض عن ألوف الدّلاءِ
يا لسان الأحداث أنت فصيحٌ ** فتحدث بمنطق الفصحاءِ
قل لمن يركبون ظهر هواهم ** ويسيرون كالدمى الصماءِ
إنما هذه الحياة عبورٌ ** فأقلّوا من لهوكم والمِراءِ
في ثرى الأرض ألف سرّعميقٍ ** تتوارى وراء ألف غطاءِ
إنما هذه الزلازل بوحٌ ** ونذيرٌ لنا, ودرس ابتلاءِ
إنها صرخةٌ من الأرض تعلو ** حين يعلو تظلّم الأبرياءِ
حينما نمنح القويّ إحتراماً ** ونلاقي ضعيفنا بإزدراءِ
حينما تصبح الأمانة فينا ** مغنماً للطغاة والعُملاءِ
إيه يا مصر ياحبيبة نيلٍ ** بين جنبيه واحة للرخاءِ
نحن يامصر بالعقيدة جسمٌ ** واحدٌ لم يزل قويّ البناءِ
عندما يشتكي من الجسم عضوٌٌ ** تتداعى بقيةُ الأعضاءِ
مصر يامصر , كلُّ بعدٍ قريبٌ ** في ظلال المحجة البيضاءِ
د.عبدالرحمن بن صالح العشماوي*******************